معنى المواطنة: مفهوماً ومعنى مع السيد حسين سرائب آل البعاج

سلام عليكم ايها الاحبة كلمة المواطنة تنطلق من معنى الانتماء للوطن وما يترتب عليه من التزامات متبادلة فيما يقدمه الإنسان من نفسه للأرض التي حملته واتسعت لمتطلباته وحاجاته الجسدية والفكرية وغيرها، وما يترتب على السلطة التي تتحمل المسئولية عن صون هذه الأرض من مسئوليات حيال هذا الإنسان، فإن الالتزام هنا يكبر عن أن يكون احتضانا للأرض في معناها المادي لينطلق في الأبعاد التي تجسدها الأرض في كل العناوين التي تحملها كلمة وطن. ومن هنا فنحن لا نفهم معنى التعبد للأرض، في الوقت الذي نعرف أن من كمالات الالتزام بمعناه الديني أن يكون الإنسان مخلصا ووفيا للأرض التي عاش فيها والوطن الذي احتضنه، فكان مستقره وموضعا لسكنه وحركته، لأن الأرض عندما تتسع لتحمل معنى القضية تصبح هي الإنسان، ولذلك وجب “أنسنتها” لكي يتم التعاطي معها كعنوان إنساني لا يحتمل الجدل في مسألة الدفاع عنه وصونه وحمايته أمام كل طامع وطاغ، لأن التراخي في ذلك قد يقود إلى استعباد البلد وأهله لحساب المستكبر ومصادرة الأمة بمصادرة مواقعها.
وإذا كان بعض الأدبيات الإسلامية والأحاديث المأثورة يشير إلى أن “الفقر في الوطن غربة، والغنى في الغربة وطن”، كما في الكلمة الخالدة للإمام علي “ع”، فإن هذه الكلمات والأحاديث ناظرة إلى الأصل في مسألة الانتماء للأرض، بحيث يمكن هذا الانتماء الشخص المنتمي من أن يعيش حرا كريما في هذه الأرض على أساس أن حاجاتنا هي التي تستعبدنا، ولأن القوة الاقتصادية أو السياسية أو الاجتماعية للمواطن، تجعله مؤهلا أكثر لرفد مسيرة بلده وحماية استقلاله وسيادته. ولذلك وجدنا أن الإسلام يحث على الهجرة للذين ضاقت عليهم الظروف والأوضاع في بلدهم، ويمكن أن يتلمسوا القوة الاقتصادية أو السياسية، أو يجدوا الملجأ الآمن في الخارج على أساس أن ذلك يساعدهم في تركيز أوضاعهم وفي العودة إلى بلادهم لحمايتها أكثر، وقد جاء في قوله تعالى ما يؤكد هذه الفكرة: “ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة” “النساء: 100″. ولذلك، فإن قيمة الوطن أو الأرض في المفهوم الإسلامي هي بمقدار ما تؤمن للإنسان من فسحة للسكن المادي أو الروحي، وبمقدار ما تستطيع أن تعطيه من حرية تمكنه من تقديم فكره للآخرين وتؤهله لصوغ مستقبل رائد لنفسه ولبلده. ومن هنا كانت كلمة الإمام علي”ع”: “ليست بلد أولى بك من بلد، خير البلاد ما حملك”، أي بمعنى ما حمل فكرك وأعطاك الحرية في تأدية واجباتك ونيل حقوقك.
إننا نرى أن مسألة المواطنة هي الأساس في علاقة الإنسان بنظام الحكم وبالدولة، بصرف النظر عن الخصوصيات الأخرى الدينية أو العرقية أو السياسية وما إلى ذلك. فالإنسان يتساوى مع مواطنه الآخر في المواطنية وما يترتب عليها من حقوق وواجبات. ومن هنا، فإن النظام الطائفي ينسف معنى المواطنية ويقتلها في الصميم ليحول الوطن إلى ولايات طائفية غير متجانسة وأفراد تتحكم بهم العصبيات الطائفية بدلا من أن تجمعهم الروح الوطنية وسقف المواطنية.
لقد فشلت فكرة المواطنة عندنا مع كل هذا الإدمان لها في أدبياتنا السياسية، لأننا تعاملنا مع ذهنية الشقاق التي نتحرك فيها مذهبيا وطائفيا كمقدس من المقدسات، ولم نكلف أنفسنا عناء البحث عن مواقع اللقاء تحت السقف الوطني العام. ولذلك لجأت كل جماعة إلى مواقعها الطائفية لتبحث عن سبل للحماية الذاتية بعيدا عن السقف الوطني العام الذي يمثل ضمانة كبرى للجميع لو أحسنا التعامل معه، ولو أن البحث انطلق جديا في إخراج البلد من الطائفية السياسية التي عملت مواقع دولية وإقليمية لتكريسها في النصوص وزرعت حراسا لها في مفاصل البلد لتمنع من قيام الوحدة التي تعني الانصهار الحقيقي بعيدا عن كلمات النفاق السياسي التي تسالم الكثيرون على أنها الخبز السياسي الذي لابد للبنانيين أن يتعودوا على التهامه ليكون سما في الدسم الوطني العام.
زمن الترحم على القطريات
لقد أمضينا عقودا ونحن نمارس لعن الغرب المستكبر أو هذه الدولة وتلك، على أساس أنها المسئولة عن تقسيمنا إلى دول وأقطار، والحال أننا اليوم نترحم على القطريات بعدما فقدنا معنى الانتماء للبلد الواحد، من خلال العفن السياسي والطائفي الذي أفقدنا معنى الإحساس بأننا مواطنون في بلد واحد، وأنه لابد لنا من أن نتساوى أمام القانون حتى يكون هو المظلة، لا أن يكون الانتماء العشائري هو الذي يؤمن عنصر الحماية مع ما تحمله هذه الحماية من عناوين قد تؤسس لفساد أكبر ونهب أوسع… ولذلك، فإنني أزعم أننا نحتاج إلى ثورة حقيقية على المستوى الثقافي وعلى مستوى تغيير الذهنية السياسية ليكون الناس على بينة حيال الصورة الحقيقية للدولة الحديثة التي يعيش فيها المواطن وفق مبدأ العطاء والأخذ فيما هي الحقوق والواجبات، لأن المواطنة تعني قبل كل شيء الانتصار على العقلية العشائرية التي لم تعد متوافرة على المستوى الطائفي، بل على مستوى الأحزاب والحركات التي تلزم المنتمين إليها بالاصطفاف حولها وفق المعطيات العشائرية التي ينتفي فيها الحس النقدي لتتم المصادرة للجميع وبالمجان.
إن علينا أن نسأل أنفسنا: هل نريد أن نؤسس لدولة الإنسان لنصل إلى دولة المؤسسات من خلال الفهم الحقيقي لمعنى المواطنة في كونها التزاما حيال البلد كله، وفي نبذ التقييم العشوائي للآخرين المنطلق من العقلية التي تحسبهم على هذه الجهة المذهبية أو تلك الجهة السياسية بعيدا عن دراسة طاقاتهم وإمكانات إبداعهم لحساب الوطن والمواطنين؟ إن البناء الحقيقي للبلد المثخن بالمآسي والجروح والديون، والذي يحمل أعباء المنطقة مع أعبائه الداخلية، يبدأ من هنا، ومن خلال توافر النية الصادقة للعمل على قيام دولة القانون، دولة القيم والأخوة والتسامح والتعاون على أنقاض دولة السرقة والنهب. ولن يكون ذلك إلا من خلال نماذج قيادية صافية وواعية لم تترب على سلوك الطرق الملتوية في العمل السياسي أو في حركتها الإدارية. ولذلك فإننا نعتقد أن لبنان هو أحوج ما يكون في هذه المراحل لقيادات شابة تعيش طهر القلق في البحث عن سبل بناء المستقبل ولا تعيش عقلية كيدية وعدوانية حيال الآخر، أيا كان هذا الآخر.
إننا في امس الحاجة للارتفاع من حضيض الاختلافات المذهبية غير المبنية على أسس فكرية وثقافية إلى فضاء الحوار الوطني الجامع، والقبول بالتنوع السياسي والاجتماعي الذي يقود إلى التفاهم من خلال الحوار البناء الذي يعترف منذ البداية بخصوصية الآخر ليمهد للتفاهم العام بشأن كيفية بناء الوطن ودولة الإنسان والمجتمع الكبير وفق أسس الحماية الإدارية والسياسية والاقتصادية والثقافي
 خادمكم في الله وكيل آية الله العظمى المرجع الديني الشيخ فاضل البديري دام ظله الشريف السيد حسين سرائب آل البعاج.