منذ أن بدأ “موسم الإرهاب” في مطلع الألفية الثالثة دخلت إلى الأسواق محاصيل و منتوجات عدة من غلال الموسم: أفكار، قوانين وأشخاص لم يكن لها وجود من قبل، باتت تملأ الدنيا وتشغل الناس، وحصاد المواسم مستمر إلى ما شاء بوش وصحبه.
أفكار و نظريات تحتل صفحات الكتب والصحف، قوانين وأنظمة تثير الجدل و تثير حفيظة ملايين البشر، جنرالات، قادة وسياسيون احتلوا المشهد الكوني كله أمام خلفية الحرب على العدو الجديد للبشرية و الحضارة. وفي خضم هذه المعمعة كلها، نبت على جانب الموسم مخلوق طفيلي، يتغذى على شدّة الأزمات و يزدهر في فصول الحروب، و يدخل علينا من خلال الشاشات و الفضائيات، إنه منوش المحلل.
المفترض بمنوش المحلل أن يُخضع الأحداث للتفكيك والتحليل، أن يفصّلها بما يسهل للعامة فهم ما يجري، و من ثم يستخلص النتائج والعبر وينوّر البشرية بشيء من مصباح أفكاره الوضاءة. يأتي منوش المحلل في أحجام وأشكال وأصناف متعددة، بحيث يكون لكل حدث منوشه، و لكل حالة محللها، و بالطبع لكل وسيلة إعلامية باقتها المؤلفة من العديد من المحللين. فهناك منوش المحلل السياسي و هو أشهرهم و أكثرهم انتشارًا وأشدهم “تخبيصاً “. هذا النوع من المحللين يخضع لمعايير صارمة في التسويق، فكل قناة تقدم من يتلاءم مع خطها السياسي، فتصبح مهمة المحلل شرح وجهة نظر المحطة وتبسيطها وإقناع المشاهدين بها ، و لا يعود مطلوباً من المشاهد أن يفهم شيئاً مما يجري، بل عليه أن يفهم فقط أن رأي المحطة هو الصائب.
لدينا منوش المحلل الاستراتيجي، وهو يتصف بالقدم والعراقة أي أنه كبير في السن مقارنة بسائر المحللين، ذلك أن مراكمة خبرة يمكن وصفها “بالاستراتيجية” يتطلب زمناً طويلاً . منوش الاستراتيجي هو غالباً عسكري متقاعد نفض الغبار عن رتبته مؤخراً واسترجع ذكرياته “الحربية” مسقطاً إياها على الأحداث الراهنة. يغلب عليه الطراز الكلاسيكي في ملبسه ويفضل الألوان الغامقة و كثيراً ما يأتي مصحوباً بنظارات سميكة. المشكلة التي لا يدركها هذا المنوش و لا من يطلب آراءه أن ليس كل عسكري هو استراتيجي، وليس كل من هو إستراتيجي ينبغي أن يكون عسكرياً، هل سمع أحدكم بمحلل في الاستراتيجية الاقتصادية مثلاً؟
على مستوى أكثر احترافية يجيء منوش المحلل المتخصص بشأن واحد دون سواه ، هذا النوع من المحللين يكره الشمولية و يفضل التزام نطاق محدد، و يسمى بالخبير، الخبير في شؤون… يمكنك ملأ الفراغ بأي كلمة شئت، بدءًا من الحركات الأصولية، إلى القانون الدولي، وليس انتهاءًا بالطبخ. يفترض بهذا النوع من المحللين أن يكون أكاديميًا وموضوعيًا و ربما محايد توخيًّا للمصلحة العامة للمشاهدين. طبعاً بعيدة عن أسناننا، فحتى هم ينزعون إلى التحليل الموجه التحريضي أحياناً. وفي المميزات العامة المشتركة، يمتلك الواحد منهم قدرة عجيبة على التأقلم و التكيف، و ليس أدل على ذلك سوى الثقة المفرطة التي يطلون بها عبر الشاشة، وكأن الواحد منهم معتاد على التعامل مع كاميرات التصوير و أجواء الاستديوهات، لا بل يخيل لك أنهم قد قضوا فترة من الزمن يتمرنون على فنون “الطلة” بإنتظار حدث يستدعي مثولهم أمام الكاميرا للخضوع لأسئلة مقدم البرامج. لا يحتاج منوش المحلل الثقة بنفسه أو بصحة ما يقول، وهو لهذا الغرض يستعين بما يتوافق ومزاجه من دراسات وأبحاث ومقالات، و بطبيعة الحال كلما زادت نسبة المراجع الغربية، زادت نسبة الثقة.
و لا أدري إن كان منوش المحلل يجري “مذاكرة ” سريعة قبل خروجه إلى الجمهور، أم أن هناك وسائل “غش” معتمدة كالإطلاع على الأسئلة مسبقاً ربما ، ولا أريد أن أحمّل ذمّتي الكثير.
2019-11-07