خاض منوش الميكانيكي الحرب الأهلية , و عاش المرحلة الثورية التي يمر فيها كل شاب في حياته . و هو هذه الأيام يحاول تأمين قوته و قوت عياله من خلال الكد في العمل حيناً , و التحايل و ” اللوفكة ” حيناً آخر .
منوش الميكانيكي أصيل و شديد التعلق بذكرياته , و به حنين إلى الزمن الجميل حيث كان يختال على حاجز من حواجز الميليشيا التي كان ينتمي إليها , و يرمق الفتيات بنظراته الفتاكة , و يستعرض “جدعنته” في حماية أهل الحي و سكان المنظقة .
و لذلك فهو لا زال يحتفظ بملابسه التي شهدت بطولاته في ساحات الوغى , و كثيراً ما يروق له إرتداءها إلى عمله كي يثبت لأقرانه أنه رجل “عتيق” و ذات تراث .
و من احب الملابس إلى قلبه بنطال غنمه في واحدة من غزواته , و لا زال يفضله على سائر ما يملك من سراويل .
لكن ما لا يبالي له منوش حين يرتدي هذا البنطال هو أثر السنين الطوال على تركيبته الجسمانية , و ما يودي إليه هذا الأثر من مظهر حين يرتدي منوش بنطاله هذا .
فتراكم الشحوم و الدهون على مر الأيام يجعل كرشه يتدلى فوق مقدم بنطاله , فيما تشهد مؤخرته ظاهرة لافتة للعيان و حيث تجد نصفها خارجاً يتشمس , فيما أن النصف الآخر يسعى جاهداً للحاق بها .
و بما أن عمل منوش يتطلب الكثير من الحركة و خاصة الإنحناء , فإن النصف السفلي غالباً ما يرى النور أثتاء النهار جاعلاً من بنطال منوش لزوم ما لا يلزم .
اما قمصانه فتشكل لوحات زيتية متنوعة الأشكال و الأبعاد , و يغلب عليها الطابع السوريالي و تتميز بأستخدام الألوان الداكنة حيث يمزج منوش الزيوت و الشحوم و الديزل و ما طالته يداه من السوائل , و يستخدم المفكات و المفاتيح المتعددة الأطوال و العيارات في رسم لوحاته , مع لمسة خفيفة من الغبار و الوحول التي تعطي الرسوم معنى ترابياً عميقاً .
حس فني مرهف يكمله صوت أجش متعدد الطبقات يصلح كنذير شؤم لعمال الورشة إن هم تقاعسوا او تلكؤا في أداء مهامهم .
و من المهارات التي إكتسبها منوش في الحرب مهارة الإنبطاح في وضعيات متعددة , و هو يستفيد من هذه المقدرة في عمله , فتجده مستلقياً تحت السيارات يعمل فيها بدأب , و قد طغت هذه الوضعية على عموم حياته حيث صار يقضي الجزء الأكبر من يومه في وضعية الإنبطاح و الإستلقاء .
و كان أن أثمرت إحدى مجهوداته البليدة ولداً ورث عنه مناشته في الطباع , و حسه الفني و ذوقه في الرسم .
إبن منوش ولد و في رقبته ذنب هو أنه إبن أبيه , ما جعله عرضة لتقريع والدته الدائم , حيث كانت تصب جام غضبها عليه , و لا تجد متنفساً لكبتها إلا بالصراخ إرهاب الطفل المسكين , ما جعل الأخير يلجأ إلى الشارع كمهرب و متنفس يمارس فيه حريته و يعيش طفولته .
متأثراً بالميول التشكيلية لوالده , يرتدي صاحبنا الصغير غوف بدنه النحيل فانيلة كانت فيما مضى بيضاء , قبل أن تعلوها بقع من الكاتشاب و الزيت و الشوكولا و الصلصات المتنوعة لتشكل بدورها لوحات يطبعها الولد بطابعه الطفولي الخاص من ناحية إعتماده الألوان الفاقعة التي توحي بفرح غير موجود إلا في ذهن من يتوهمه من الناظرين .
في الشارع يطبق الولد عقيدته المتمثلة بإيمانه بالحرية المطلقة , و يترجم ذلك عبر أفعال لا تعير القيود الإجتماعية المستبدة أي إهتمام .
فيحلو له مثلاً أن ” يفك زنقته ” أمام خلق الله أجمعين , و لا يكلفه ذلك سوى أن يرفع فانيلته قليلاً كي يحافظ على خطوط لوحته الباهرة , و من ثم يتوكل على ربه و يشطف الرصيف بما تيسر له من معين متأت عما شربه من قبل .
و إذ تراه والدته من على شرفة منزلهم تصيح به بصوت يطرق صداه مسامع الوالد , و تنهره طالبة منه العودة إلى المنزل كي ينال الجزاء اللازم , و لكن صاحبنا يأبى و يرفض .
فشخصيته المنوشية لا ترضى أن تفرض عليه الأوامر من الشرفات , و لا ينفع معه الصراخ و التهويل , هو إبن جيل لا يمشي إلا بالضرب .
تقرر والدته أن تنزل إليه كي تذيقه مر العذاب , و تجره من شعره إلى المنزل .
و حين تصل إلى الشارع تتذكر أنها بحاجة لشراء بعض الخضروات , و تغير وجهة سيرها نحو بائع الخضار
2019-11-20