منوش العراف B

كانت الخطوة الأولى تقتضي تشكيل فريق من المساعدين و المعاونين
و إتجه به الرأي إلى تجميع عدد من الأفراد عجيبي الخلقة الذين يجيدون المثلة بأنفسهم و هم أحياء . و ذلك كي يضفي على مقر عمله جواً عجائبياً كون هذا هو ديدن أصحاب المهنة
و أي مكان أفضل من الشارع لإيجاد أولئك القوم , و هو أصلاً يعرف الكثير و المثير منهم . فلطالما دخل معهم في نزاعات و مشادات حول أحقية الواحد منهم بالوقوف عند تلك الناصية أو ذاك التقاطع أو باب معبد ما . و كثيراً ما إشتبك معهم بالأيدي , و هو لغاية اليوم لم يفهم كيف أن كسيحاً أو معوقاً فاقداً لطرف من أطرافه يستحيل عند العراك رجلاً كامل الخلقة يمتلك من القوة ما يمكنه من أن يبرح منوش ضرباً و يتركه سابحاً في دمه
لقد كان يلزمه بالدرجة الأولى مساعد شخصي , و سكرتيرة , و مرمطون” أي OFFICE BOY 
بدأ البحث

شرع منوش أولاً في البحث عن مساعد خاص , الشخص الذي سوف يكون يده اليمنى و مستودع أسراره , و قد وقع إختياره لهذه المهمة على دنكر ” . 
دنكر هو شحاذ مخضرم و يجيد تقمص أكثر من عاهة و إعاقة , و يبرع في الظهور بمظهر من جار عليه الزمن حتى ( جعلكه و طحبشه ) . 
هو رجل قصير القامة , مستدير الجسد , يدعي أنه فقد إحدى يديه في حادث ما . يمتلك عيناً زجاجية تثير العجب العجاب , فكلما ركن شخص سيارته بقربه و قال له خليلي عينك على السيارة ينتزع دنكر تلك العين الزجاجية و يضعها على غطاء المحرك
صوته من الخشونة بمكان بحيث لا تصدق أنه يصدر عن شخص بهذا الحجم , و كثيراً ما يصدح بهذا الصوت حين يستعطي فيجبر المارة على العطاء . أو ( يرندح ) الأغاني حينما يقوم بمسح زجاج السيارات بقدمه . 
حين يقف دنكر بلا حراك تخاله تمثالاً من البرونز لتأثير الشمس المتراكم على بشرته على مدار سنين طويلة . و غالباً ما يتقاضى المال من سيدات المجتمع و الفتيات الراغبات كي يطلعهن على سر السمرة التي يتحلى بها
إلى ذلك كان مكيراً , و هي صفة ملازمة لكونه قصيراً , و خبيثاً كالثعلب و خفيفاً كالأرنب
بالمحصلة كان دنكر شحاذاً محتالاً نشالاً يجمع كل الصفات اللازمة كي يكون حجر أساس في مشروع منوش المستقبلي
أما من إرتآها منوش كسكريتيرة فقد كانت إمرأة تدعى سهجنان . و هي أنثى فريدة حيث أنها معتوهة إلى أقصى الدرجات , تستهويها محادثة عواميد الكهرباء و مطاردة الأكياس الفارغة التي يحملها الهواء
جلستها المفضلة كانت وجبة طعام مع قطط الشارع أجمع , و هي تجيد لغتهم كأنها منهم
أما عاهتها الدائمة فقد كانت نوعاً من الخلل العصبي الذي يمنعها من التحكم بحركات أطرافها , فمثلاً تراها تسير و يداها تخبطان في الهواء في كل إتجاه , و ربما تلطم وجهها بين الحين و الآخر
لم تكن سهجنان تملك أن تغلق فمها , فتبقى شفتاها مرتخيتان و لعابها يسيل و يقطر بما يشكل خيطاً يسمح بتتبعها أينما ذهبت , و لذلك لم يكن إقتفاء أثرها صعباً البتة
و كانت تكن المشاعر لدنكر , ذلك أنها كانت تخاطبه و نظرها متجه نزولاً , فيما كانت تخاطب العواميد على نحو معاكس , و لذلك إستشعرت منه تواضعاً لها و قدرت له ذلك
بخياره هذا , ضمن منوش جواً من الألفة في مكتبه
العنصر الثالث في الفريق كان الصبي الي يفترض به القيام بمهام الضيافة و الإهتمام بشؤون الزوار و القاصدين , و لهذه الغاية وقع خيار منوش على صبي كردي يدعى حردون 
بالحقيقة فقد كان لقومية حردون دور أساسي في صلاحيته لهذه المسؤولية , فهو لا يتقن العربية , و علاوة على ذك فهو غبي جداً كي يتعلمها بمرور الزمن و داعي المخالطة . و بالتالي لن يتمكن من إفشاء أي أسرار خاصة تتعلق بعمل المكتب , و لن يستميله أو يستدرجه أحد كي يكشف معلومات حساسة
الوحدية التي كانت تفقه لغة حردون و يفقه لغتها هي سهجنان , فقد كان تنطق بلغة غريبة عجيبة صدف أنها قريبة إلى الكردية
حردون كان صبياً عجيباً كمخلوقات السيرك , و فوق ذلك فإسمه هو تمام صفاته
يسير بإنحناء حاد يكاد يلامس معه الأرض , عيناه تتحركان يمنة و يسرة بشكل جنوني , و لسانه لا ينفك يغادر موقعه و يعود إليه بسرعة فائقة
رغم وضعية جسده الشاذة كان الفتى سريع الحركة , يبرع في تسلق كافة المسطحات و المنحنيات و الأجسام , قد كان مساعد دنكر في مهمات السرقة المنزلية . كما أنه كان مختصاً بنشل حقائب السيدات اللاتي كن يرتعبن لرؤيته
حردون هو ضمانة منوش أن لا تغادر سيدة مكتبه و حقيبتها معها , و طبعاً سوف يقع اللوم حينها على الجن و الأرواح التي إختطفت الحقيبة عقاباً لصاحبتها على عدم إلتزامها بالبرنامج المقرر أو بسبب مساومتها على المبلغ المطلوب
أفعال هذا الفتى سوف تشكل وسيلة إبتزاز لا مثيل لها و لن تجرؤ سيدة على قول لا لمنوش و إلا غضبت الأرواح و عاقبتها
هذا الثلاثي سوف يشكل نواة مسروع منوش , و مع تشكله يكون فلكي المستقبل قد أنجز خطوته الأولى في المخططشكل موقع المكتب ركناً أساسياً في مدى نجاح المشروع و تطوره , و لها فقد أشار موظفو منوش إليه بأن يبحث عن منطقة مزدحمة ذات كثافة سكانية عالية و يقطنها أناس تستفحل بينهم المشاكل و المآسي و لا يجدون من معاناتهم مهرباً , و يعيش بين يأسهم وهم الإيمان بالتنجيم و السحر و الشعوذة كملاذ و ملجأ يخفف من أوجاعهم و يداوي جراحهم . 
كما و كان مطلوباً الإلتفات إلى الجهل كعامل مساعد جداً في إزدهار العمل بحيث لا يشكك أحد في رأي الروحانيين , و يمنحهم الناس مقام الأولياء و القديسين و يصغون إلى توجيهاتهم كما لو كانت وحياً منزلاً لا جدال فيه . و لا يضنون على الروحاني بأي غال أو نفيس من أجل نيل رضاه و إستحقاق عطفه الذي سيزيح عن كاهلهم كل هم و غم . 
و لكن منوش كان يملك رأياً آخراً , صحيح أن ما سبق يشكل بيئة ملائمة لنمو تجارته و صحيح أنه سوف يجد إقبالاُ متزايداً في محيط كهذا , و لكن لم يكن هذا مراده . 
فالناتج هنا لن يضاهي كثيراً ما كان يجنيه من التسول و هو يرغب بتحقيق نقلة نوعية و مدخول كبير , و بالتأكيد لن يستبدل صفته كشحاذ بأخرى لا تبدل من واقعه الإقتصادي كثيراً . 
كلا , لن يعمل برأي مساعديه , بل سوف يسعى إلى أن يكون منجماً بمستوى خمس نجوم , مشعوذ class , و سوف يستهدف من خلال نشاطه المجتمع الراقي و أفراد الطبقة المخملية من الفنانين و الأغنياء و السياسيين و من لف لفهم . 
فحتى هذا الصنف من الناس لديه مشاكله و هي مشاكل أسهل بكثير من التي يعانيها عامة الشعب و هذا ما سوف يسهل عليه مأموريته , كما أن أفراد هذا المجتمع ضعاف أما المحن و هذه نقطة تلعب لصالحه و تمكنه من إستخراج ما يشاء من أموال من جيوبهم و حساباتهم المصرفية . 
علاوة على ذلك فقد أصبح اللجوء إلى المشايخ الروحانيين موضة لدى أهل الطبقة المخملية , تماماً كما اللجوء إلى جراحي التجميل و خبراء الأزياء و المستشارين و سائر التفاهات الأخرى .
ثم إن الفضول سمة أساسية لدى أولئك القوم , و هو سوف يستفيد من هذا العامل و يحيط نفسه بالغموض و التشويق عبر مؤثرات كان قد فكر بها ملياً , و لن يشكل المستوى العلمي أو المعرفة أي عائق في سبيل ما يصبو إليه فهذا حاجز يسهل خرقه من خلال اللعب على وتر الماورائيات التي تعد أموراً إكزوتيكية مثيرة و جذابة و ترفيه مسل لعلية القوم . 
أما العامل الأهم الذي يراهن عليه منوش فهو الطمع , سوف يغري و يزين لقاصديه الربح السريع الذي يمكن توفيره لقاصديه من خلال الإستعانة بالجن و الأرواح و العفاريت و الزئبق الأحمر و العزائم و باقي الخزعبلات . 
لقد كان في ذهن الرجل خطة محكمة و أحلام تدغدغ مخيلته و تحاكي أهواءه , علاقات واسعة سوف ينسجها من خلال إحتكاكه بهذا الصنف من البشر , و كان واثقاً أنه لا بد أن يأتي يوم يتمكن فيه من الإستفادة من هذه العلاقات , و من يدري فلربما يصبح لديه برنامجه التلفزيوني الذي يطل من خلاله على سائر الناس أجمعين و يسدي لهم نصائح فلكية حول كيفية التحرك و التصرف , و بهذا يصير مصير آلاف المعاتيه بين يديه . 
لكل هذه الأسباب مجتمعة قرر منوش أن يختار بقعة من بقاع الأثرياء و المترفين كي يستقر مكتبه فيها 
و بالفعل فقد إستأجر مكاناً في وسط المدينة , في نقطة إستراتيجية تحيط بها الأسواق و المقاهي و مرافق التسلية , على يمينه عيادات التجميل و على يساره المزينون , لقد بات كالصياد الذي تمركز في نقطة لا تخيب , و كيفما رمى شباكه فسوف يخرج بغلة وافرة و لا يلزمه سوى قليل من الصبر . 
بقي عليه الآن أن يخلق الأجواء المحيطة بمكتبه و التي ستكون عامل جذب للزبائن , و أن ينشر إعلاناً في صحف التسويق و الدعاية مع صورة مرعبة لشخصه الكريم بزي من ألف ليلة وليلة ( راجع الوسيط و الوكيل ) و هكذا يكون كل شيء حاضر للإنطلاق و ما عليه إلا أن يتقن دوره حتى تبدأ الأوراق النقدية بالإنهمار عليه . 
كان مكتبه يقع في مبنى لا يلاصقه أي جيران , و لهذا أقدم على إغلاق الشرفات و النوافذ من جكيع الجهات بستائر سوداء و ذلك كي يمنح الرائي من الخارج إحساساً بالغموض و سرية المكان و ما يدور فيه , و يغرق الداخل بظلام يكمل عملية الوهم الجذاب . 
على الواجهة الرئيسية علق لافتة كبيرة تعلن عن هوية المركز و طبيعة نشاطه , و كتب عليها